فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليس {قرّبا} هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا.
وفي التّوراة هما «قايين» والعرب يسمّونه قَابِيل وأخوه «هَابِيل».
وكان قابيل فلاّحًا في الأرض، وكان هابيل راعيًا للغنم، فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُربانًا وقرّب هابيل من أبكار غنمه قربانًا.
ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة.
فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل.
والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم.
وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلًا صالحًا بل كانت له خطايا.
وقيل: كان كافرًا، وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قربانًا.
وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قربانًا وليس هو قربانًا مشتركًا.
ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة.
وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول.
والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض. اهـ.

.قال الفخر:

إنما صار القربان مقبولًا والآخر مردودًا لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال.
قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37] فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام: «التقوى هاهنا» وأشار إلى القلب، وحقيقة التقوى أمور: أحدها: أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير، وثانيها: أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى.
وثالثها: أن يتقى أن يكون لغير الله فيه شركة، وما أصعب رعاية هذه الشرائط! وقيل في هذه القصة: إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه.
وقيل: إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل.
وقيل: كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة، فلذلك لم يقبل الله قربانه. اهـ.
قال الفخر:
ثم حكى الله تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل {لأقتلنك} فقال هابيل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وفي الكلام حذف، والتقدير: كأن هابيل قال: لم تقتلني؟ قال لأن قربانك صار مقبولًا، فقال هابيل: وما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
وقيل: هذا من كلام الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم اعتراضًا بين القصة، كأنه تعالى بيّن لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقيًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ} استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل: قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي، وقيل: على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء {لأقْتُلَنَّكَ} أي والله تعالى لأقتلنك بالنون المشدة، وقرئ بالمخففة. اهـ.

.قال القرطبي:

وفي قول هابيل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} كلام قبله محذوف؛ لأنه لما قال له قابيل: {لأَقْتُلَنَّكَ} قال له: ولم تقتلني وأنا لم أجنِ شيئًا؟، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني اتقيته وكنتُ علي لاحِبِ الحق وإنما يتقبل الله من المتقين.
قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السّنة؛ فمن اتقاه وهو موحِّد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة؛ وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة؛ علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلًا.
وقال عدِي بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة.
قلت: وهذا خاص في نوع من العبادات.
وقد رَوى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليًا فقد اذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينهُ ولئن استعاذني لأعيذنّه وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مَسَاءته». اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ} استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى حسد أخيه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} أي القربان والطاعة {مِنَ المتقين} في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم، وليس المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب إنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ا وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.
وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده الكناية عن أن لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعًا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله في الجواب {إنّما يتقبّل الله من المتّقين} موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله.
يقول: القبول فعل الله لا فعل غيره، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره.
يعرّض به أنّه ليس بتَقِي، ولذلك لم يتقبّل الله منه.
وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس.
ولذا فلا ذَنب، لمن تقبّل الله قربانه، يستوجبُ القتلَ.
وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين.
فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعًا المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقيًا في سائر أحواله؛ ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص، وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلًا خاصًّا، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان، فيكون على حدّ قوله تعالى: {هُدى للمتّقين} [البقرة: 2]، أي هدى كاملًا لهم، وقوله: {والآخرة عند ربّك للمتّقين} [الزخرف: 35]، أي الآخرة الكاملة؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة؛ ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان، أي المريدين به تقوى الله، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة.
ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

قال بعض الحكماء: العاقل من يخاف على حسناته، لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} والخاسر من يأمن من عذاب الله لأن الله تعالى قال: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99]. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى: أولها: التطهير من رذيلة الحسد، إذ هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدم الكلام عليه في النساء، الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الأعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص، والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: «الصوفي دمه هدر، وماله مباح»؛ فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال «اللهم اغْفِر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ». اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: «كَانَا ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ هَابِيلَ وَقَابِيلَ، وَكَانَ هَابِيلُ مُؤْمِنًا وَقَابِيلُ كَافِرًا» وَقِيلَ بَلْ كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ تَقَبُّلِ الْقُرْبَانِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالْقُرْبَانُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْقُرْبُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ؛ وَهُوَ «فُعْلَانَ» مِنْ الْقُرْبِ كَالْفُرْقَانِ مِنْ الْفَرْقِ، وَالْعُدْوَانِ مِنْ الْعَدْوِ، وَالْكُفْرَانِ مِنْ الْكُفْرِ وَقِيلَ: إنَّمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ قَرَّبَ شَرَّ مَالِهِ وَقَرَّبَ الْآخَرُ خَيْرَ مَالِهِ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ.
وَقِيلَ: بَلْ رُدَّ قُرْبَانُهُ لِأَنَّهُ كَانَ فَاجِرًا، وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ.
وَقِيلَ: كَانَتْ عَلَامَةُ الْقَبُولِ أَنْ تَجِيءَ نَارٌ فَتَأْكُلَ الْمُتَقَبَّلَ وَلَا تَأْكُلُ الْمَرْدُودَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَبِاَلَّذِي قُلْتُمْ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ}.
كانت الدنيا بحذافيرها في أيديهما فحسد أحَدُهما صاحبَه، فلم يصبر حتى أسرع في شيء بإتلافه، وحين لم يُقْبَلْ قربانُه اشتد حسدُه على صاحبه، ورأى ذلك منه فهدَّدَه بالقتل.
فأجابه بنطق التوحيد.
قوله جلّ ذكره: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ}.
يعني إنما يُتَقَبَّلُ القربانُ مِمَّن طالَع في القربان مساعدةَ القدرة، وألقى توهُّم كونه باستحقاقه واستيجابه. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ ابنيْ آدم بالحق} النبأ: الخبر.
وفي ابنيْ آدم قولان:
أحدهما: أنهما ابناه لِصُلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنهما أخوان من بني إِسرائيل، ولم يكونا ابنيْ آدم لصلبه، هذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح، لقوله: {ليُريَه كيف يواري سوأة أخيه} [المائدة: 31].
ولو كان من بني إِسرائيل، لكان قد عرف الدفن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: «إِنه أول من سن القتل» وقوله تعالى: {بالحق} أي: كما كان.